فصل: تفسير الآيات (155- 157):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (148- 149):

{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}
{مِن بَعْدِهِ} من بعد فراقه إياهم إلى الطور، فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلاً، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه.
والثاني: أن يراد واتخذوه إلها وعبدوه. وقرئ: {من حليهم} بضم الحاء والتشديد، جمع حلي، كثدي وثديّ، ومن حليهم- بالكسر- للإتباع كدلى. ومن حليهم، على التوحيد، والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة.
فإن قلت: لم قال: من حليهم، ولم يكن الحليّ لهم، إنما كانت عوارى في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها عوارى في أيديهم كفى به ملابسة على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا: {فأخرجناهم مّن جنات وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأورثناها بَنِى إسراءيل} [الشعراء: 57- 59]، {جَسَداً} بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد. والخوار: صوت البقر، قال الحسن: إنّ السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في فيِّ العجل، فكان عجلاً له خوار.
وقرأ علي رضي الله عنه: {جؤار} بالجيم والهمزة، ومن جأر إذا صاح. وانتصاب جسداً على البدل من {عِجْلاً} {أَلَمْ يَرَوْاْ} حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحقّ ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه. ثم ابتدأ فقال: {اتخذوه} أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر {وَكَانُواْ ظالمين} واضعين كل شيء في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أوّل مناكيرهم {وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ} ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعض يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. و{سُقِطَ} مسند إلى {فَى أَيْدِيهِمْ} وهو من باب الكناية.
وقرأ أبو السميفع: {سقط في أيديهم}، على تسمية الفاعل، أي وقع العض فيها، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أي في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد ويرى بالعين {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ: {لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا}، بالتاء. وربنا، بالنصب على النداء، وهذا كلام التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام: وإن لم تغفر لنا وترحمنا.

.تفسير الآيات (150- 151):

{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
الأسِف: الشديد الغضب {فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] وقيل: هو الحزين {خَلَفْتُمُونِى} قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي. وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه. ويدلّ عليه قوله: {اخلفنى فِي قَوْمِى} [الأعراف: 142] والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله.
فإن قلت: أين ما تقتضيه بئس من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت: الفاعل مضمر يفسره ما خلفتموني. والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خلافتكم.
فإن قلت: أي معنى لقوله: {مِن بَعْدِى} بعد قوله: {خلفتموني}؟ قلت: معناه من بعد ما رأيتم مني، من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد. وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا: {اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 128] ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه. ونحوه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى سبق فيتعدّى تعديته، فيقال عجلت الأمر، والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولن أرجع إليكم فحدَّثتم أنفسكم بموتي، فغيّرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وروي: أنّ السامري قال لهم- حين أخرج لهم العجل وقال هذا إلهكم وإله موسى-: إنَّ موسى لن يرجع، وإنه قد مات وروي: أنهم عدّوا عشرين يوماً بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا {وَأَلْقَى الالواح} وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضباً لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى.
وروي: أنّ التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي بشعر رأسه {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} بذؤابته وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظناً بأخيه أنه فرط في الكف {ابن أُمَّ} قرئ بالفتح تشبيهاً بخمسة عشر، وبالكسر على طرح ياء الإضافة. {وابن أمي}، وبالياء. {وابن إمِّ}، بكسر الهمزة والميم. وقيل: كان أخاه لأبيه وأمّه، فإن صحّ فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطن واحد.
وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدّ بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها {إِنَّ القوم استضعفوني} يعني أنه لم يأل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار. وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلاّ أن يقتلوه {يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إليّ، وقرئ: {فلا يشمت بي الأعداء}، على نهي الأعداء عن الشماتة. والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} ولا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي قريناً لهم وصاحباً. أو ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم. لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء {قَالَ رَبّ اغفر لِى وَلاخِى} ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة. وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (152):

{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}
{غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ} الغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم. والذلة: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم وهم بنو قريظة والنضير، من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية {المفترين} المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى. ويجوز أن يتعلق في الحياة الدنيا بالذلة وحدها ويراد: سينالهم غضب في الآخرة، وذلة في الحياة الدنيا، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله.

.تفسير الآية رقم (153):

{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}
{والذين عَمِلُواْ السيئات} من الكفر والمعاصي كلها {ثُمَّ تَابُواْ} ثم رجعوا {مِن بَعْدِهَا} إلى الله واعتذروا إليه {وَءامَنُواْ} وأخلصوا الإيمان {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد تلك العظائم {لَغَفُورٌ} لستور عليهم محاء لما كان منهم {رَّحِيمٌ} منعم عليهم بالجنة. وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم. عظَّم جنايتهم أو لا ثم أردفها تعظيم رحمته، ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجلّ، ولكن لابد من حفظ الشريطة: وهي وجوب التوبة والإنابة، وما وراءه طمع فارغ وأشعبية باردة، لا يلتفت إليها حازم.

.تفسير الآية رقم (154):

{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألقي الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة: {ولما سكن عن موسى الغضب}، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة، وطرفاً من تلك الروعة. وقرئ: {ولما سكت} و {أسكت} أي أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه {أَخَذَ الالواح} التي ألقاها {وَفِى نُسْخَتِهَا} وفيما نسخ منها، أي كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة {لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً. ونحوه {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وتقول: لك ضربت.

.تفسير الآيات (155- 157):

{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
{واختار موسى قَوْمَهُ} أي من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:
وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً

قيل: اختار من اثني عشر سبطاً، من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان: فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.
وروي: أنه لم يصب إلا ستين شيخاً، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا، لميقات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرني أنظر إليك، يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب بلن تراني، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجفة {قَالَ} موسى {رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى} وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكني قبل هذا {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} يعني أتهلكنا جميعاً، يعني نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً وجهلاً {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء} تضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدى منه، لأن محنته لما كانت سبباً لأن ضلّوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام {أَنتَ وَلِيُّنَا} مولانا القائم بأمورنا {واكتب لَنَا} وأثبت لنا وأقسم {فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ} عافية وحياة طيبة وتوفيقاً في الطاعة {وَفِي الآخرة} الجنة {هُدْنَا إِلَيْكَ} تبنا إليك. وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب. والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:
يَا رَاكِبَ الذّنْبِ هُدْهُد ** واسْجُدْ كَأَنَّكَ هُدْهُد

وقرأ أبو وجرة السعدي: {هدنا إليك} بكسر الهاء، من هاده يهيده إما حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين، أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حرّكنا إليك وأملنا على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت من العيادة.
ويجوز: عدت بالإشمام. وعدت، بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض. وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون {هُدْنَا} بالضم فعلنا من هاده يهيده {عَذَابِى} من حاله وصفته أني {أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وأمّا {رَّحْمَتِى} فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلاّ وهو متقلب في نعمتي.
وقرأ الحسن: {من أساء} من الإساءة. فسأكتب هذه الرحمة كتبه خاصة منكم يا بني إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيء منها {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول} الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن {النبى} صاحب المعجزات {الذى يَجِدُونَهُ} يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل... وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها. أو ما طاب في الشريعة والحكم، مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلي كسبه من السحت، ويحرّم عليهم الخبائث ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة. الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وكذلك الأغلال. مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت.
وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ: {آصارهم} على الجمع {وَعَزَّرُوهُ} ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّ. وقرئ بالتخفيف. وأصل العزر: المنع. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنه منع عن معاودة القبيح. ألا ترى إلى تسميته الحدّ، والحدّ هو المنع. و{النور} القرآن.
فإن قلت: ما معنى قوله {أُنزِلَ مَعَهُ} وإنما أنزل مع جبريل؟ قلت: معناه أنزل مع نبوّته، لأنّ استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يعلق باتبعوا. أي: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهي عنه، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه.
فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل، أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعرّض بذلك في قوله: {والذين هُم بآياتنا يُؤْمِنُونَ} وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين لطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يحشروا معهم ولا يفرّق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء.